«هَلَّا أذكَرتَنيها؟!» نسخة مختصرة خاصة بطُلاب القرآن

الحمد لله الذي يَسّر القرآن للذكر، فجعله في صدور الذين أتوا العلم، وما يعقلها إلا العالمون، فهل من مدكر، وأصلي وأسلم على خير معلم للكتاب، وأحسن تالٍ له، محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد،،

فقد رَغِب إليَّ بعض الإخوة أن أختصر هذا البحث؛ لِمَا فيه من أخبار وآثار رَجوا أن تكون محفظة لقارئ القرآن، ورأوا أن (35 صفحة) بخط متوسط، ما جرت العادة الكتابة به، صادَّةٌ عن القراءة، وقد استحسنت رأيهم واستصوبته، حيث أن أغلب القراء لا تعنيهم الشُبه المُثارة، ويعدون إقناع الناس بعدم حفظ الكتاب ضَرْبٌ من الحمق و الخبال! ولا شك أن إقناع الناس بهذا يحتاج إلى مهارة عالية في الإقناع من الملقي، وإلى قابلية وهوى كبيرين عند المتلقي، وإن توفر الشرط الأول -وهو أمر يرده الواقع!-، فإن توفر الشرط الثاني يعزُّ وجوده عند طلاب القرآن بشكل خاص، والمجتمع بشكل عام.

ومن الموافقات العجيبة أن الكاتب الدكتور العيسى يرى أنه يكفي أن يحفظ المسلم الفاتحة وسورة معها لتتم الصلاة، ويصرف باقي الوقت للتدبر والعلم كما يقول، وهذا القول بعينه هو قول أحد من اشتهر بالغلو في التكفير، حيث يقول يكفي من القرآن الفاتحة وسورة قصيرة، واصرف باقي الوقت لتعلم العقيدة، التي هي عنده الحكم على الآخرين وتكفيرهم!

وسأقتصر في هذا الاستعجال الذي اختصرته إلى الثلث تقريباً، على ذكر المقارئ و الأخبار والتراجم مجردة من ذكر المناقشات أو إيراد الشبه؛ التي بذكرها يبطل مضمون المقالة المردود عليها جملة وتفصيلاً، ومن أراد التوسع فبإمكانه مراجعة أصل المقالة: http://www.saaid.net/Doat/asbeeh/21.htm

ولعل نشر هذا المختصر في هذه العشر المباركة شحذاً للهمم. وهي كما ستلاحظ مقتصرة على التراجم و الأخبار والقصص المتعلقة بحفظ القرآن.

(ذِكر المَقْرَأة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام)

رغم تسارع الزمان وتزاحم الأحداث، وانشغال النبي عليه السلام بأمر الأمة، وتقطع نزول الوحي، وضيق سِنِيَّ النبي صلى الله عليه وسلم الأخيرة، التي شهدت توافد الوفود، وفتح مكة، وحجة الوداع، ومؤتة و العسرة، فضلاً عن حياة الرسول الخاصة، وإدارته شؤون العامة، ثم مرضه عليه الصلاة والسلام، رغم هذا كله، فقد جلس صلى الله عليه وسلم لإقراء القرآن، وعَلَّم أصحابه، فمنهم من قرأ عليه جزءا، ومنهم من أتَمَّ القرآن عليه.

تأخرُ إسلام بعض الصحابة، وانشغالهم، وتقطع الوحي، وتأخر نزول بعض السور، وقِصَر المدة؛ لأن القرآن لم يستتم كاملا إلا قبل وفاة النبي عليه السلام بمدة وجيزة، وعدم تدوين المصحف، فمن رام أخذه؛ لا بد أن يأخذه مشافهة، عوائق تعوق عن الحفظ. رغم كل هذه التحديات والعوائق إلا أن هناك نفراً أخذوا القرآن من فِيِّ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يذهب فيعلمها أهله وجيرانه، ومن تعذر أن يأخذه من النبي، أخذه ممن أخذه منه، حيث كانوا يتناوبون على الأخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وتعلمُ القرآن على حياة النبي صلى الله عليه وسلم أصعب بكثير من تعلمه بعد وفاته، لأمور: تقطيع السور، عدم تدوين المصحف بالشكل الحالي؛ فكانت الآية تنزل، فيجمع الرسول الناس، فيلقي عليهم الآيات، ثم يقول ضعوها في مكان كذا، فيضعونها، فلو لم يكونوا يحفظون القرآن حفظاً متقناً ما استطاعوا ضبط ما يمليه عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا يستعينون على ذلك ببعض الكتابة، وبعضهم كان يدون لنفسه. ولا يكتفون بهذا، بل كانوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يراجعون ويعرض بعضهم على بعض، وسيأتي بعض ذلك. والمقصود ذكر مقرأة النبي صلى الله عليه وسلم.

عُنيَ عليه السلام بإقراء القرآن، فقال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، ولا يحث الرسول على أمر إلا ويكون الأسبق إليه، فممن قرأ القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم:

عثمان بن عفان رضي الله عنه. وبِه بدأ الذهبي في كتابه (معرفة القراء الكبار على الطبقات و الأعصار). «قال الداني: عرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض عليه أبو عبد الرحمن السلمي، والمغيرة بن أبي شهاب، وأبو الأسود، وزر بن حبيش». [تاريخ الإسلام للذهبي 257/2].

وأقرأ النبي عليه السلام: علي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وعبدالله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبا موسى الأشعري، وأبا الدرداء. واختُلِفَ في أبي بكر، فذهب السيوطي، و أقره ابن كثير: أن أبا بكر أقرأ الصحابة لتقديم الرسول إياه في الصلاة، وانتصر له الكتاني في (تراتيبه)، وعزاه لجماعة منهم النووي، ولم يذكره الذهبي في طبقاته، وليس هنا محل بحث المسألة.

قال الكتاني: «وفي الرياض المستطابة: جمع القرآن حفظا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة: علي، وعثمان، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبو زيد الأنصاري، وتميم الداري، وعبادة بن الصامت، وأبو أيوب اهـ.» [التراتيب الإدارية، ت: عبدالله الخالدي: 1/107].

وقال: «ورأيت في ترجمة (مَجْمَع بن حارثة) من طبقات ابن سعد: روى الكوفيون أنه جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلّا سورة أو سورتين منه. وفي ترجمته من الاستبصار قال ابن إسحاق: كان مَجْمَع غلاما حدثا قد جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ا.هـ». قلتُ: كان هذا حال غِلمان الصحابة أحداثهم، فما الظن برجالهم؟

وأقرأ الرسول صلى الله عليه وسلم (شهاب القرشي) القرآن كله، فكان عامة أهل حمص يقرءون بقراءته.

وللنساء نصيب، فقد جمعت القرآن في العهد النبوي أم ورقة (الشهيدة) بنت عبد الله بن الحارث الأنصاري، وقد كان رسول الله يزورها، ذكرها ابن سعد في طبقاته. ويراجع كتاب (التراتيب الإدارية)، فقد عقد فصلا طويلا لهذا الموضوع.

وممن حفظ بعض القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله بن عباس، مات رسول الله وله من العمر أقل من ثلاث عشرة سنة، وكان يحفظ المفصل، ثم أتمه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

ولم تقتصر المقرأة النبوية على الإقراء التقليدي، فقد كان صلى الله عليه وسلم دائم التحفيز، من ذلك: أن الأقرأ هو الأحق بالإمامة ولو كان صبياً كما كان عمرو بن مسلمة يؤم قومه، وقصته في حفظ القرآن عجيبة. وكان يزوج الرجل بما معه من كتاب الله. ولا يقتصر تقديم الحافظ في حياته فقط، بل حتى بعد مماته، فعند تزاحم الجنائز يقدم الأحفظ، وفي شهداء أحد، قدَّم الأكثر قرآنا. فإن تساووا أحياء و أمواتاً أقرعوا بينهم.

ومن طُرُقِه عليه السلام في الإقراء وحرصه عليه أنه يطلب من بعض أصحابه أن يقرؤوا عليه، ويثني على قراءتهم، طلب ذلك من عمر بن الخطاب وصاحبه، وابن مسعود، وأُبي بن كعب وغيرهم، بل كان صلى الله عليه وسلم يفعل شيئا عجيباً، كان يسير في الليل، فإذا استمع لقارئ يقرأ القرآن جلس يُنصت لقراءته، فإذا أصبح أثنى عليه، ووجهه إن لَحِظَ عليه شيئا، فعل ذلك مع عدد من الصحابة، منهم أبو بكر وعمر وأبو موسى الأشعري وغيرهم كثير. وفي بعض الأحيان كانت الملائكة هي من تخبر الرسول بقراءة أصحابه فيخبرهم بإخبارها.

وأعجب ما وقفت عليه من تحفيز الرسول أصحابه وحثه إياهم على الحفظ أنه كان يطلب منهم الفتح عليه في الصلاة ويشجعهم على ذلك، روى أبو داود بسنده عن المُسوَّر بن يزيد المالكي: قال: شهِدتُ رسولَ الله- صلى الله عليه وسلم -يقرأ في الصلاة، فترك شيئًا لم يقرأه، فقال له رجلٌ: يا رسول الله، آيةُ كذا وكذا، فقال رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم -: «هَلَّا أذكَرتَنيها». وقول المُسوَّر: (رجل) يعني أنه غير معروف، ولو كان معروفا لسماه، وهذا يدل على شيوع الحفظ بين الصحابة رضي الله عنهم.

وعند أبي داود عن عبد الله بن عمر: أن النبي- صلى الله عليه وسلم -صلّى صلاةً فقرأ فيها فلُبِسَ عليه، فلمَّا انصَرَفَ قال لأُبي: «أصليتَ معنا؟» قال: نعم، قال: «فما منعك؟».

وعن ابن عباس قال: «تردد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في القراءة في صلاة الصبح، فلم يفتحوا عليه، فلما قضى الصلاة نظر في وجوه القوم، فقال: أما شَهِد الصلاة معكم أبي بن كعب؟ قالوا: لا» فرأى القوم أنه إنما تفقده ليفتح عليه. [المغني لابن قدامة 42/2]

وأما من حفظ القرآن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فكثير جداً، ولكن لعدم تميزه؛ لتساوي الناس -الصحابة وغير الصحابة- في هذه المنقبة، فإن التراجم قد تغفل عنه، ولا تذكر إلا من تميز بإقراء أو إمامة ونحو ذلك، إذ لا يُساوَى من قرأ القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن قرأه على غيره، إلا أن البصير سيلوح له شيء من ذلك عند جرده للتراجم، كما لاح لصاحب (الإتقان) عند حديثه عن أم ورقة الشهيدة.

(ذِكرُ حفظهم للقرآن)

أول من سَنَّ لنا حفظ الكتاب وأشعرنا بأهميته محمد صلى الله عليه وسلم، حيث كان يحرك لسانه وقت تنزل الوحي ليحفظ، فنهاه الله عن ذلك، قال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} ، وضَمِنَ له أن يحفظ القرآن بقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة].

قال الذهبي: «وصح من وجوه، أن عثمان قرأ القرآن كله في ركعة» [تاريخ الإسلام 2/265]. واقتدى بعثمان جمع من السلف كعطاء وسعيد بن جبير وغيرهم. ويصفون صلاته: أنه قام ليلة في حجر إسماعيل فقرأ القرآن كاملاً في ركعة. ولا يقدر على قراءته إلا إذا كان حافظاً، فلم تكن الإنارة متوفرة في الكعبة بالشكل الذي يتيح للقارئ أن يقرأ عليها ليلة كاملة، ولم تكن المصاحف خفيفة، بَيِّنة، فيقدر على حمله ليلة كاملة.

ومن شدة حفظ وإتقان ابن مسعود أنه كان يُملي القرآن عن ظهر قلب في الكوفة، وسيأتي ذكره في مجالس الإقراء بحول الله.

و في صحيح مسلم [817]، لقي نافع بن عبدالحارث عمرَ بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فسأله: من استعملت على الناس؟ قال: ابن أَبْزَى. قال: ومن ابن أَبْزَى؟ قال: مولى من موالينا. قال: واستعملت على أهل مكة مولى؟! قال: إنه قارئ لكتاب الله وعالم بالفرائض. قال عمر: أمَا إن نبيكم قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين»، ومعنى (قارئ) أو (قرأ القرآن) حافظ، لأن التلاوة لا مزية فيها، والأصل أن كل مسلم تالٍ للقرآن.

وفي ترجمة يحيى بن وَثَّاب: كان إذا قرأ لا تسمع حركة في المسجد لحسن صوته، قال الذهبي:  قرأ القرآن على عُبيد بن نُضيلة صاحب علقمة فتحفظ عليه كل يوم آية. [سير أعلام النبلاء 4/379]

وهذا قتادة –وكان كفيف البصر- يقول لسعيد بن المسيب: يا أبا النضر: خُذِ المصحف، قال: فعَرَض عليه سورة البقرة فلم يُخطِ فيها حرفاً. فقال: يا أبا النضر أحكمتُ؟ قال: نعم. قال: لأنا لصحيفة جابر بن عبدالله أحفظ مني لسورة البقرة. [سير أعلام النبلاء 5/269]، وفي ترجمة مجاهد أنه أخذ القرآن عن ابن عباس. [سير أعلام النبلاء 4/449]، وأخذه يعني: حفظه وتعلمه.

يقول شعبة بن الحجاج عن الإمام مِسعر بن كِدام الهلالي:«كنا نُسمي مِسعراً: المصحف، يعني من إتقانه» [سير أعلام النبلاء 7/163]. قلتُ: كان مِسعر أحول العينين، وكان –كما يصفه خالد بن عمرو-: إذا نظر إليك حسبت أنه ينظر إلى الحائط كم شدة حؤولته. ومع هذا حفظ القرآن وأتقنه، حتى أصبح مضرب المثل في الحفظ، فمثل هذا كيف يحفظ ونظره لا يثبت على المصحف؟!

وما كان الحفظ مختصاً بالكبار، بل حتى صبيانهم وغلمانهم كانوا يتحفظون القرآن، يَقصُّ ضِمام بن إسماعيل عن أبي قبيل كائنةً العجيبة، يقول: بكى عمر بن عبدالعزيز وهو غلام صغير، فأرسلت إليه أمه، وقالت: ما يبكيك؟ قال: ذَكرتُ الموت. قال ضِمام معللاً هذه الحالة الغريبة: وكان يومئذ قد جمع القرآن. [سير أعلام النبلاء 5/114]. وحفظت أم هذيل الأنصاري، حفصة بنت سيرين القرآن وعمرها اثنا عشر سنة [سير أعلام النبلاء 4/507]، وتقدم خبر ابن عباس.

ويُخبر إسحاق السلولي ما أخبرته به أم سعيد، فيقول: «حدثتني أم سعيد، قالت: كان بيننا وداود الطائي (ت: 126) جدار قصير، فكنت أسمع حنينه عامة الليل، لا يهدأ، وربما ترنم في السحر بالقرآن، فأرى أن النعيم قد جمع في تَرَنُمه، وكان لا يُسرج عليه» [سير أعلام النبلاء 7/422]، ودقَق النظر في قوله: (وكان لا يُسرج عليه)، أي أنه يقرأ في الظلام من حفظه.

وبين يديَّ –الآن- أزيد من مئتي أثر وخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وتابعوهم عن الحفظ فقط، فضلاً عن أوجه العناية الأخرى، آثرت تركها للاختصار، ويكفي ما سبق للتدليل على مضمونها.

والحفظ بشكل عام هو لغة العرب ووسيلة تخاطبهم ونقلمهم للأخبار لقلة الكُتَّاب، حتى أنهم كانوا يعيبون على من لا يحفظ من المرة الواحدة. ثم في صدر الإسلام أصبح حفظ القرآن جزء من تكوين الشخصية، وكان يعاب على من لا يحفظ، و إن كان فاسقاً أو مغنياً.

وحين تفحص التراجم، ولا أقول تراجم العلماء، بل تراجم العامة والشعراء ونحوهم؛ بل والمغنين! تجدهم يذكرون حفظهم للقرآن، وروايتهم للحديث وحفظهم للشعر، وكان حفظ القرآن جزءا من هوية الشخص أو ما يسمى بـ (البرستيج) الخاص للشخص؛ كتعلم الإنجليزية عند بعض أهل عصرنا.

ويؤكد هذا أنهم إذا أرادوا رفع سعر الجارية حفظها القرآن ورَووها السنة، وحفظوها الشعر، واشتهر بهذه الصنعة إبراهيم الموصلي ودحمان وغيرهم، واتخذها بعضهم صنعة يتكسب منها. وذكروا في ترجمة الموصلي أنه كان سبباً في رفع أسعار الجواري، إذ كان يشتري الجارية بمئات أو آلاف الدنانير، فإذا عَلَّمها باعها بعشرات الآلاف. وكان الحد الأدنى للحفظ، حفظ القرآن، ورواية ثلاثة آلاف حديث، وعشرة آلاف بيت من الشعر، أما إن كانت ساذجة – أي غير معلمة- فإنهم يزهدون فيها ويبيعونها بأبخس الأثمان وإن كانت فائقة الجمال.

قلتُ: وزعم أحمد أمين أن هذا –أي التعليم- خاص بالجواري دون الحرائر، لأنهن كن يستخدمن للغناء و اللهو، وهذا غير صحيح، وسِير القوم ترده.

ويُبين حال الجزيرة العربية قبل إنشاء الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن؛ بل قبل استقرار حكم آل سعود، ما جاء ترجمة الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله [مواليد 1196هـ] أنه رحل إلى مصر، وأخذ العلم عن أجِلَة علمائها، ومنهم «الشيخ إبراهيم العبدي، شيخ مصر في القراءات، قرأ عليه أول القرآن… وقرأ على الشيخ أحمد سلمونه كثيرا من الشاطبية وشرح الجزرية». [الدرر السنية 16/405]، ومقام الشيخين العبدي –أو العبيدي- وسلمونه في هذا الفن أشهر من أن يؤكد عليه، يكفي أن أهم أسانيد القرآن تعود إليهما، فالشيخ عبدالرحمن لفَرْطِ عنايته حَرِص على مشافهة أبرز –إن لم يكونا أبرز- علماء القراءات في العالم في زمانهم، خاصة الشيخ العبيدي رحمه الله.

(ذِكْرُ مجالس إقرائهم)

نَشِطت مجالس الإقراء وتحفيظ القرآن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وساح أصحابه في الأرض طلباً لخيرية تعلم القرآن وتعليمه.

وتقدم في (ذِكر المقرأة النبوية) طرفا ممن قرأ القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم، أو حفظ القرآن على عهده، وجميعهم جلسوا للإقراء بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقرأ على أُبي بن كعب: أبو هريرة، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن السائب، وقرأ على عثمان: المغيرة بن أبي شهاب المخزومي وغيرهم ممن تقدم ذكره، وعلى أبي موسى الأشعري: حِطان بن عبدالله الرقاشي. وعلى ابن مسعود: الأسود بن يزيد النخعي. وغيرهم كثير.

انتعشت مجالس الإقراء في البصرة إبان إمارة المقرئ أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، قال الكتاني: «قال أبو الوليد بن رشد: أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر أنه قد حفظ القرآن في البصرة في هذه السنة خلق كثير، فكتب له أن يَفرِض لهم». [ التراتيب الإدارية ط: دار البشائر: 342/2].

وتصدر المقرئ العالم عبدالله بن مسعود رضي الله عنه الإقراء في الكوفة، وكانت طريقته عجباً، جاء رجل إلى عمر بن الخطاب بعرفات، فقال: جئتك من الكوفة وتركت بها رجلا يُملي المصاحف عن ظهر قلب. فغضب لذلك عمر غضبا شديداً، وقال: ويحك، من هو؟! قال: عبدالله بن مسعود، فذهب عنه ذلك الغضب، وسكن إلى حاله، وقال: والله ما أعلم من الناس أحداً هو أحق بذلك منه. [التراتيب الإدارية 2/346 ط: دار البشائر].

قال النووي: «وروى ابن أبي داود: أن أبا الدرداء رضي الله عنه كان يدرس القرآن مع نفر يقرءون جميعاً». [التبيان في آداب حملة القرآن للنووي 104]

وأثرى مَقْرَآتِ الصحابة وأطولها عمرا مقرأة المقرئ الحبر البحر، العالم الفقيه، عبدالله بن عباس -رضي الله عنه- ، تليها مقرأة ابن مسعود، لتفرغ الأول للإقراء والتعليم، وتأخر وفاته. وكان ذا خبرة وتمرس في الإقراء، يُلغز لطلابه، ويناقشهم، محفز، مبدع.

يَلْمَحُ الإمام أحمد بعض زوايا مقرأة ابن عباس، ففي ناحية منها يظهر ابن عباس وهو يناقش طلابه ويستفز عقولهم، ويَكُدُّ أذهانهم، سألهم مرة: «أي القراءتين كان أخيراً، قراءة عبدالله أو قراءة زيد؟ قالوا: قراءة زيد. قال: لا، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن على جبرائيل كل عام مرة, فلما كان في العام الذي قبض فيه عرضه عليه مرتين، وكانت آخر القراءة قراءة عبدالله».[المسند 2494]

والغَرض من هذا يتجاوز تنوع وسائل الإقراء إلى أمر هو من صميم الإقراء في ذلك الوقت؛ ألا وهو تتبع العَرضات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان بعضهم يحفظ القرآن مرتين وثلاثا مرار حتى يتيقن موافقة لآخر عرضة عُرضت على سول الله صلى الله عليه وسلم.

ويتجاوز ابن عباس رضي الله عنه التعليم الجماعي للعناية الفردية بالطلاب، فقد كان واسع البال جداً، مستفرغ الطاقة، لا تكاد تراه إلا وقد التزمه أحد طلابه يقرأ عليه، يقول شهر بن حوشب رحمه الله: «عرضت القرآن على ابن عباس سبع مرات» [سير أعلام النبلاء 4/373]، وهذا طالب واحد، وغيره مثله وأزيد منه.

و في جانب آخر من جوانب هذه المقرأة الشامخة ترى ابن عباس يجلس إلى أحد أبرز طلابه ويخصه بالحديث، يحكي سعيد بن جبير طرفاً مما خصه شيخه به، فيقول أنه قال له مرة محفزاً: «جمعت المحكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: وما المحكم؟ قال: المفصل» [البخاري 5036]، وكان عُمر ابن عباس حين توفي الرسول أقل من ثلاث عشرة سنة!

وكانت لشهاب القرشي مقرأة مشهودة بحمص، فكان عامة أهلها يقرءون بقراءته رضي الله عنه.

واستمرت الأمة على ما كانت عليه، فهذا شيخ القراء سليم بن عيسى  يقرأ على حمزة بن حبيب عشر ختمات. [سير أعلام النبلاء 9/375]، وكان للأعمش مقرأة يقرئ فيها القرآن. [سير أعلام النبلاء 6/226].

وتَتَعَدَدُ القراءة على الشيخ لأن القرآن وصل إلينا بالسماع والمشافهة، ولم يصل إلينا عن طريق المصاحف، بل المصحف وسيلة مساعدة، وإذا خالف السطرُ الصدرَ فإن العبرة بما تناقلته الصدور، ألا ترى أن أحكام التجويد غير مدونة في المصاحف؟ ألا ترى للقرآن رَسماً يخالف ما تعارف عليه الناس في إملائهم ومكاتباتهم؟ ولو قُرئ القرآن كما كُتب لكنا نقرأ شيئا آخر غير الكتاب الذي أنزله الله، وهذا كافٍ لتبيين أهمية الحفظ ومكانته في الأمة.

ولأهمية السماع في نقل القرآن، فقد كان العلماء ينقلون أصوات القُراء عبر الكتب! فإن سألتَ كيف يُنقل صوتٌ عبر القرطاس؟ أقول: ذكروا في ترجمة الإمام الزاهد صالح المري (ت:172هـ) أنه أول من قرأ في البصرة بالتحزين. وسمعه سفيان الثوري يَعظِ مرة، فقال: ما هذا قاص، هذا نذير. [سير أعلام النبلاء 8/46] وكانوا يسمون الواعظ: قاص، كما يسمون الحافظ قارئ.

قال ابن عدي: كان حسن الصوت. وقال ابن الأعرابي: الغالب عليه القراءة بالتحزين. وكان لقراءته الحزينة مع جمال صوته تأثير عجيب، حتى قالوا: مات جماعة سمعوا قراءته.

وهذا مبحث جدير بالإفراد، وتقدم الحديث عن ابن وثاب، وداوداً الطائي.

نستطيع الجزم أن قراءة كبار القراء كالحصري والمنشاوي ومن في طبقتهم مقاربة، وقد تكون مطابقة في بعضها لقراءة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقراءة أبي بن كعب وأبي موسى الأشعري، أي أننا سمعنا القرآن كما سمعه الصحابة رضي الله عنهم!

يا حافظ القرآن!

لعلك تقول: إن كان أمر الأمة كما مرَّ، فما بال هؤلاء؟ ومن أين تَسرَّبت إلينا هذه الفكرة المرذولة؟

وجواب هذا التساؤل المشروع يجليه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعنه يقول: «أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم» [إعلام الموقعين 60]، فهؤلاء كما يرى الخبير البصير بهم عمر بن الخطاب حملهم على قولهم: عجوزا، فحسدوا، فاستكبروا، فاصبر على كيد الحسود، فإن صبرك قاتله. واحذر من الاستماع إليهم، وإن أعجزك الحفظ يوماً، فاعلم أن سبب ذلك راجع إليك لا إلى الحفظ.

يلخص ابن تيمية أسباب الضلال، فيقول أنها ترجع إلى (شبهة) وافقت (جهالة)، وخلطت بشيء من الهوى. [منهاج السنة 18/1]، فأنت إن أصغيت لهم، وأعجبك قولهم، فسُدَّ منافذ الضلال تسلم.

بِرَّ أبويك، وأعظم البر أن تلبسهما تيجان الوقار يوم المفخرة، وأنتَ أيها الأب، وأنتِ أيتها الأم: إن استمعتما لهذه الشنشنة، فسترون –والله!- التيجان توزع على الرؤوس في يوم المفخرة، وأنتما.. وأنتما برؤوس عارية تعضون أيديكما من الندم!

وختاماً: آمل منك أخي القارئ، ألا تنسى كاتب هذه الكلمات من دعوة صالحة أن يكون من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، ولكَ بمثله.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أخوك المحب

مساء الإثنين 7/12/1436هـ.

أضف تعليق